فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{فأمّا منْ أُوتِى كتابه بِيمِينِهِ}
تفصيل لأحكام العرض والمراد بكتابه ما كتب الملائكة فيه ما فعله في الدنيا وقد ذكروا أن أعمال كل يوم وليلة تكتب في صحيفة فتتعد صحف العبد الواحد فقيل توصل له فيؤتاها موصولة وقيل ينسخ ما في جميعها في صحيفة واحدة وهذا ما جزم به الغزالي عليه الرحمة وعلى القولين يصدق على ما يؤتاه العبد كتاب وقيل إن العبد يكتب في قبره أعماله في كتاب وهو الذي يؤتاه يوم القيامة وهذا قول ضعيف لا يعول عليه وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان كيف يؤتى العبد ذلك {فيقول} تبجحا وافتخارا {هاؤُمُ اقرؤا كتابيه} قال الرضي ها اسم لخذ وفيه ثمان لغات الأولى بالألف مفردة ساكنة للواحد والإثنين والجمع مذكرا كان أو مؤنثا الثانية أن تلحق هذه الألف المفردة كاف الخطاب الحرفية كما في ذلك وتصرفها نحو هاك هاكما هاكم هاكن الثالثة أن تلحق الألف همزة مكان الكاف وتصريفها تصريف الكاف نحوها هاؤما هاؤم هاء هاؤما هاؤن الرابعة أن تلحق الألف همزة مفتوحة قبل كاف الخطاب وتصرف الكاف الخامسة هأ بهمزة ساكنة بعد الهاء للكل السادسة أن تصرف هذه الجملة تصريف دع السابعة أن تصرفها تصريف خف ومن ذلك ما حكى الكسائي من قول من قيل له هاء بالفتح الام إهاء وإهاء بفتح همزة المتكلم وكسرها الثامنة أن تلحق الألف همزة وتصرفها تصريف ناد والثلاثة الأخيرة أفعال غير متصرفة لا مضي لها ولا مضارع وليست بأسماء أفعال قال الجوهري هاء بكسرة الهمزة بمعنى هات وبفتحها بمعنى خذ وإذا قيل لك هاء بالفتح قلت ما أهاء أي ما آخذ وما أهاء على مالم يسم فاعله أي ما أعطى وهذا الذي قال مبني على السابعة نحو ما أخاف وما أخاف. انتهى.
وقال أبو القاسم فيها لغات أجودها ما حكاه سيبويه في كتابه فقال العرب تقول هاء يا رجل بفتح الهمزة وهاء يا امرأة بكسرها وهاؤما يا رجلان أو امرأتان وهاؤم يا رجال وهاؤن يا نسوة فالميم في هاؤم كالميم في أنتم وضمها كضمها في بعض الأحيان وفسر هاهنا بخذوا وهو متعد بنفسه إلى المفعول تعديته والمفعول محذوف دل عليه المذكور أعني كتابيه وهو مفعول {اقرؤا} واختير هذا دون العكس لأنه لو كان مفعول {هاؤم} لقيل اقرؤه إذ الأولى إضمار الضمير إذا أمكن كما هنا وإنما لم يظهر في الأول لئلا يعود على متأخر لفظا ورتبة وهو منصوب مع أن العامل على اللغة الجيدة اسم فعل فلا يتصل به الضمير وقيل {هاؤم} بمعنى تعالوا فيتعدى بإلى وزعم القتبي أن الهمزة بدل من الكاف قيل وهو ضعيف إلا إن كان قد عنى أنها تحل محلها في لغة كما سمعت فيمكن لا أنه بدل صناعي لأن الكاف لا تبدل من الهمزة ولا الهمزة منها وقيل هاؤم كلمة وضعت لإجابة الداعي عند الفرح والنشاط وفي الحديث «أنه عليه الصلاة والسلام ناداه إعرابي بصوت عال فجاوبه صلى الله عليه وسلم هاؤم بصولة صوته» وجوز إرادة هذا المعنى هنا فإنه يحتمل أن ينادي ذلك المؤتى كتابه بيمينه أقرباؤه وأصحابه مثلا ليقرؤا كتابه فيجيبهم لمزيد فرحه ونشاطه بقوله {هاؤم} وزعم قوم أنها مركبة في الأصل ها أموا أي اقصدوا ثم نقله التخفيف والاستعمال إلى ما ذكر وزعم آخرون أن الميم ضمير جماعة الذكور والهاء في {كتابيه} وكذا في {حسابيه} و{ماليه} و{سلطانيه} وكذا {ماهيه} [القارعة: 10] في القارعة للسكت لا ضمير غيبة فحقها أن تحذف وصلا وتثبت وقفا لتصان حركة الموقوف عليه فإذا وصل استغنى عنها ومنهم من أثبتها في الوصل لإجرائه مجرى الوقف أو لأنه وصل بنية الوقف والقراآت مختلفة فقرأ الجمهور بإثباتها وصلا ووقفا قال الزمخشري اتباعا للمصحف الإمام وتعقبه ابن المنير فقال تقليل القراءة باتباع المصحف عجيب مع أن المعتقد الحق أن القراآت بتفاصيلها منقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأطال في التشنيع عليه وهو كما قال وقرأ ابن محيصن بحذفها وصلا ووقفا وإسكان الياء فيما ذكر ولم ينقل ذلك في {ماهيه} فيما وقفت عليه وابن أبي إسحاق والأعمش بطرح الهاء فيهن في الوصل لا في الوقف وطرحها حمزة في {مالي} و{سلطاني} و{ماهي} في الوصل لا في الوقف وفتح الياء فيهن وما قاله الزهراوي من أن إثبات الهاء في الوصل لحن لا يجوز عند أحد علمته ليس بشيء فإن ذلك متواتر فوجب قبوله.
{إِنّى ظننتُ أنّى ملاق حِسابِيهْ} أي علمت ذلك كما قاله الأكثرون بناء على أن الظاهر من حال المؤمن تيقن أمور الآخرة كالحساب فالمنقول عنه ينبغي أن يكون كذلك لكن الأمور النظرية لكون تفاصيلها لا تخلو عن تردد ما في بعضها مما لا يفوت اليقين فيه كسهولة الحساب وشدته مثلا عبر عن العلم بالظن مجازا للإشعار بذلك وقيل لما كان الاعتقاد بأمور الآخرة مطلقا مما لا ينفك عن الهواجس والخطرات النفسية كسائر العلوم النظرية نزل منزلة الظن فعبر عنه به لذلك وفيه إشارة إلى أن ذلك غير قادح في الايمان وجوز أن يكون الظن على حقيقته على أن يكون المراد من حسابه ما حصل له من الحساب اليسير فإن ذلك مما لا يقين له به وإنما ظنه ورجحه لمزيد وثوقه برحمة الله تعالى عز وجل ولعل ذلك عند الموت فقد دلت الأخبار على أن اللائق بحال المؤمن حينئذ غلبة الرجاء وحسن الظن وأما قبله فاستواء الرجاء والخوف وعليه يظهر جدا وقوع هذه الجملة موقع التعليل لما تشعر به الجملة الأولى من حسن الحال فكأنه قيل إني على ما يحسن من الأحوال أو إني فرح مسرور لأني ظننت بربي سبحانه أن يحاسبني حسابا يسيرا وقد حاسبني كذلك فالله تعالى عند ظن عبده به وهذا أولى مما قيل يجوز أن يكون المراد أني ظننت أني ملاق حسابي على الشدة والمناقشة لما سلف مني من الهفوات والآن إزالة الله تعالى عني ذلك وفرج همي وقيل يطلق الظن على العلم حقيقة وهو ظاهر كلام الرضي في أفعال القلوب وفيه نظر.
{فهُو في عِيشةٍ رّاضِيةٍ} قال أبو عبيدة والفراء أي مرضية وقال غير واحد أي ذات رضي على أنه من باب النسبة بالصيغة كلابن وتأمر ومعنى ذات رضى ملتبسة بالرضا فيكون بمعنى مرضية أيضا وأورد عليه أن ما أريد به النسبة لا يؤنث كما صرح به الرضي وغيره وهو هنا مؤنث فلا يصح هذا التأويل إلا أن يقال التاء فيه للمبالغة وفيه بحث وقال بعض المحققين الحق أن مرادهم أن ما قصد به النسبة لا يلزم تأنيثه وإن جاء فيه على خلاف الأصل الغالب أحيانا والمشهور حمل ما ذكر على أنه مجاز في الإسناد والأصل في عيشة راض صاحبها فأسند الرضا إليها لجعلها لخلوصها دائما عن الشوائب كأنها نفسها راضية وجوز أن يكون فيه استعارة مكنية وتخييلية كما فصل في مطول كتب المعاني.
{فِى جنّةٍ عالِيةٍ} مرتفعة المكان لأنها في السماء فنسبة العلو إليها حقيقة ويجوز أن تكون مجازا وهي حقيقة لدرجاتها وما فيها من بناء ونحوه أو يكون هناك مضاف محذوف أي عالية درجاتها أو بناؤها أو أشجارها وفي البحر عالية مكانا وقدرا ولا يخفى ما في استعمال العلو فيهما من الكلام.
{قُطُوفُها} جمع قطف بكسر القاف وهو ما يجتنى من الثمر زاد بعضهم بسرعة وكأن ذلك لأنها من شأن القطف بفتح القاف وهو مصدر قطف ولم يجعلوا {قطوفها} جمعا له لأن المصدر لا يطرد جمعه ولقوله تعالى: {دانِيةٌ} أي قريبة يتناول الرجل منها وهو قائم كما قال البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه وقال بعضهم يدركها القائم والقاعد والمضطجع بفيه من شجرتها وعليه يجوز أن يكون مراد البراء التمثيل وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أنه قال دنت فلا يرد أيديهم عنها بعد ولا شوك وفسر الدنو عليه بسهولة التناول.
{كُلُواْ واشربوا} باضمار القول أي يقال فيها ذلك وجمع الضمير رعاية للمعنى {هنِيئا} صفة لمحذوف وقع مفعولا به والأصل أكلا وشربا هنيئا أي غير منغصين فحذف المفعول به وأقيمت صفته مقامه وصح جعله صفة لذلك مع تعدده لأن فعيلا يستوي فيه الواحد فما فوقه وجعل بعضهم المحذوف مصدرا وكذا صفته أعني هنيئا ووجه عدم تثنيته بأن المصدر يتناول المثنى أيضا فلا تغفل وجوز أن يكون نصبا على المصدرية لفعل من لفظه وفعيل من صيغ المصادر كما أنه من صيغ الصفات أي هنئتم هنيئا والجملة في موضع الحال والكلام في مثلها مشهور {بِما أسْلفْتُمْ} بمقابلة ما قدمتم من الأعمال الصالحة {فِى الايام الخالية} أي الماضية وهي أيام الدنيا وقيل أي الخالية من اللذائذ أي الحقيقية وهي أيام الدنيا أيضا وقيل أي التي أخليتموها من الشهوات النفسانية وحمل عليه ما روى عن مجاهد وابن جبير ووكيع من تفسير هذه الأيام بأيام الصيام وأخرج ابن المنذر عن يعقوب الحنفي قال بلغني أنه إذا كان يوم القيامة يقول الله تعالى يا أوليائي طالما نظرت إليكم في الدنيا وقد قلصت شفاهكم عن الأشربة وغارت أعينكم وخمصت بطونكم فكونوا اليوم في نعيمكم وكلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية والظاهر إن ما على تفسير الأيام الخالية بأيام الصيام غير محمولة على العموم والعموم في الآية هو الظاهر. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{فأمّا منْ أُوتِي كِتابهُ بِيمِينِهِ فيقول هاؤُمُ اقْرءُوا كِتابِيهْ (19)}
الفاء تفصيل لما يتضمنه {تُعرضون} [الحاقة: 18] إذ العرض عرض للحساب والجزاء فإيتاء الكتاب هو إيقاف كل واحد على صحيفة أعمال.
و(أمّا) حرف تفصيل وشرطٍ وهو يفيد مفاد (مهْما يكن من شيء)، والمعنى: مهما يكن عرْض {من أوتي كتابه بيمينه... فهو في عيشة راضية}، وشأن الفاء الرّابطة لجوابها أن يفصل بينها وبين (أما) بجُزء من جملة الجواب أو بشيء من متعلقات الجواب مهتم به لأنهم لما التزموا حذف فعل الشرط لاندماجه في مدلول (أما) كرهوا اتصال فاء الجواب بأداة الشرط ففصلوا بينهما بفاصل تحسينا لصورة الكلام، فقوله: {من أوتي كتابه بيمينه} أصله صدر جملة الجواب، وهو مبتدأ خبره {فيقول هاؤم اقرأوا كتابيه} كما سيأتي.
ودل قوله: {فأما من أوتي كتابه بيمينه} على كلام محذوف للإِيجاز تقديره فيؤتى كلُّ أحد كتاب أعماله، فأما من أوتي كتابه إلخ على طريقة قوله تعالى: {أنْ اضربْ بعصاك البحر فانفلق} [الشعراء: 63].
والباء في قوله: {بيمينه} للمصاحبة أو بمعنى (في).
وإيتاء الكتاب باليمين علامة على أنه إيتاء كرامة وتبشير، والعرب يذكرون التناول باليمين كناية عن الاهتمام بالمأخوذ والاعتزاز به، قال الشمّاخ:
إذا ما رايةٌ رُفِعتْ لمجد ** تلقّاها عرابة باليمين

وقال تعالى: {وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين في سدر مخضود} الآية [الواقعة: 2728] ثم قال: {وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال في سموم وحميم} الآية [الواقعة: 4142].
وجملة {فيقول هاؤُم اقروا كتابِيْه} جواب شرط (أمّا) وهو مغن عن خبر المبتدأ، وهذا القول قول ذي بهجة وحُبور يبعثان على إطْلاع الناس على ما في كتاب أعماله من جزاء في مقام الاغتباط والفخار، ففيه كناية عن كونه من حبور ونعيم فإن المعنى الكنائي هو الغرض الأهم من ذكر العرْض.
و{هاؤم} مركب من (هاء) ممدودا ومقصورا والممدود مبني على فتح الهمزة إذا تجرد عن علامات الخطاب ما عدا الموجّه إلى امرأة فهو بكسر الهمزة دون ياء.
وإذا خوطب به أكثر من واحد التُزم مدُّه ليتأتى إلحاق علامة خطاب كالعلامة التي تلحق ضمير المخاطب وضمُّوا همزته ضمة كضمةِ ضمير الخطاب إذ لحقتْه علامة التثنية والجمع، فيقال: هاؤُما، كما يقال: أنتما، وهاؤُمُ كما يقال: أنتم، وهاؤُنّ كما يقال: أنتن، ومن أهل اللغة من ادعى أن {هاؤم} أصله: ها أُمُّوا مركبا من كلمتين (ها) وفعللِ أمر للجماعة من فعل أمّ، إذا قصد، ثم خفف لكثرة الاستعمال، ولا يصح لأنه لم يسمع هاؤمين في خطاب جماعة النساء، وفيه لغات أخرى واستعمالات في اتصال كاف الخطاب به تقصاها الرضي في شرح (الكافية) وابن مكرم في (لسان العرب).
و{هاؤم} بتصاريفه معتبر اسم فعل أمر بمعنى: خذ، كما في (الكشاف) وبمعنى تعال، أيضا كما في (النهاية).
والخطاب في قوله: {هاؤم اقرأوا} للصالحين من أهل المحشر.
و{كتابيه} أصله: كتابِي بتحريك ياء المتكلم على أحد وجُوه في ياء المتكلم إذا وقعت مضافا إليها وهو تحريك أحسب أنه يقصد به إظهار إضافة المضاف إلى تلك الياء للوقوف، محافظة على حركة الياء المقصودِ اجتلابها.
و{اقرأوا} بيان للمقصود من اسم الفعل من قوله {هاؤم}.
وقد تنازع كل من {هاؤُم} و{اقرأوا} قوله: {كتابيه}.
والتقدير: هاؤم كتابيه اقرأوا كتابيه.
والهاء في كتابيه ونظائرها للسْكتتِ حين الوقف.
وحق هذه الهاء أن تثبت في الوقف وتسقط في الوصل.
وقد أثبتت في هذه الآية في الحالين عند جمهور القراء وكتبت في المصاحف، فعلم أنها للتعبير عن الكلام المحكي بلغة ذلك القائل بما يرادفه في الاستعمال العربي لأن الاستعمال أن يأتي القائل بهذه الهاء بالوقف على كلتا الجملتين.
ولأن هذه الكلمات وقعت فواصل والفواصل مثل الأسجاع تعتبر بحالة الوقف مثل القوافي، فلو قيل: اقرأوا كتابي إني ظننت أني ملاقٍ حسابي، سقطت فاصلتان وذلك تفريط في محسّنيْن.
وقرأها يعقوب إذا وصلها بحذف الهاء والقراء يستحبون أن يقف عليها القارئ ليوافق مشهور رسم المصحف ولئلا يذهب حسن السجع.
وأُطلق الظن في قوله: {إني ظننت أني ملاققٍ حسابيه} على معنى اليقين وهو أحد معنييه، وعن الضحاك: كل ظن في القرآن من المؤمن فهو يقين ومن الكافر فهو شك.
وحقيقة الظن: عِلم لم يتحقق؛ إِما لأن المعلوم به لم يقع بعدُ ولم يخرج إلى عالم الحس، وإِما لأن علم صاحبه مخلوط بشك.
وبهذا يكون إطلاق الظن على المعلوم المتيقن إطلاقا حقيقيا.
وعلى هذا جرى الأزهري في (التهذيب) وأبو عمرو واقتصر على هذا المعنى ابن عطية.
وكلام (الكشاف) يدل على أن أصْل الظن: علم غير متيقن ولكنه قد يُجرى مُجرى العِلْم لأن الظن الغالب يقام مقام العلم في العادات والأحكام، وقال: يقال: أظن ظنا كاليقين أن الأمر كيت وكيت، فهو عنده إذا أطلق على اليقين كان مجازا.
وهذا أيضا رأي الجوهري وابن سيده والفيروزابادي، وأما قوله تعالى: {إن نظن إلاّ ظنا وما نحن بمستيقنين} [الجاثية: 32] فلا دلالة فيه لأن تنكير {ظنا} أريد به التقليل، وأكد، بـ {ما نحن بمستيقنين} فاحتمل الاحتمالين، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وإنا لنظنك من الكاذبين} في سورة الأعراف (66) وقوله: {وظنوا أن لا ملجأ من الله إلاّ إليه} في سورة براءة (118).
والمعنى: إني علمت في الدنيا أني ألقى الحساب، أي آمنت بالبعث.
وهذا الخبر مستعمل كناية عن استعداده للحساب بتقديم الإِيمان والأعمال الصالحة مما كان سبب سعادته.
وجملة {إني ظننت أني ملاق حسابيه} في موقع التعليل للفرح والبهجة التي دل عليها قوله: {هاؤم اقرأوا كتابيهْ} وبذلك يكون حرف (إنّ) لمجرد الاهتمام وإفادة التسبب.
وموقع {فهو في عيشة راضية} موقع التفريع على ما تقدم من إيتائه كتابه بيمينه وما كان لذلك من أثر المسرة والكرامة في المحشر، فتكون الفاء لتفريع ذكر هذه الجملة على ذكر ما قبلها.
ولك أن تجعلها بدل اشتمال من جملة {فيقول هاؤم اقرأوا كتابيه} فإن ذلك القول اشتمل على أن قائله في نعيم كما تقدم وإعادة الفاء مع الجملة من إعادة العامل في المبدل منه مع البدل للتأكيد كقوله تعالى: {تكون لنا عيدا لأوّلنا وآخرنا} [المائدة: 114].
والعيشة: حالة العيش وهيئته.
ووصف {عيشة} بـ {راضية} مجاز عقلي لِملابسة العيشة حالة صاحبها وهو العائش ملابسة الصفةِ لموصوفها.
والراضي: هو صاحب العيشة لا العِيشة، لأن {راضية} اسم فاعل رضيت إذا حصل لها الرضى وهو الفرح والغبطة.
والعيشة ليست راضية ولكنها لحسنها رضي صاحبها، فوصفُها بـ {راضية} من إسناد الوصف إلى غير ما هو له وهو من المبالغة لأنه يدل على شدة الرضى بسببها حتى سرى إليها، ولذلك الاعتبار أرجع السكاكي ما يسمى بالمجاز العقلي إلى الاستعارة المكنية كما ذُكر في عالم البيان.
و{في} للظرفية المجازية وهي الملابسة.
وجملة {في جنة عالية} بدل اشتمال من جملة {فهو في عيشة راضية}.
والعلوّ: الارتفاع وهو من محاسن الجنّات لأن صاحبها يشرف على جهات من متسع النظر ولأنه يبدو له كثير من محاسن جنته حين ينظر إليها من أعلاها أو وسطها مما لا يلوح لنظره لو كانت جنته في أرض منبسطة، وذلك من زيادة البهجة والمسرة، لأن جمال المناظر من مسرات النفس ومن النعم، ووقع في شعر زهير:
كأن عينيّ في غرْبيْ مُقتّلة ** من النواضح تسقِي جنّة سُحُقا

فقد قال أهل اللغة: يجوز أن يكون سُحُقا، نعتا للجنة بدون تقدير كما قالوا: ناقةُ عُلُط وامرأة عُطُل.
ولم يعرجوا على معنى السّحق فيها وهو الارتفاع لأن المرتفع بعيد، وقالوا: سحُقت النخلة ككرم إذا طالت.
وفي القرآن {كمثل جنة بربْوة} [البقرة: 265].
وجوزوا أن يراد أيضا بالعلو علوّ القدر مثل فلان ذو درجة رفيعة، وبذلك كان للفظ {عالية} هنا ما ليس لقوله: {كمثل جنة بربوة} لأن المراد هنالك جنة من الدنيا.
والقُطوف: جمع قِطْف بكسر القاف وسكون الطاء، وهو الثمر، سمي بذلك لأنه يُقطف وأصله فِعل بمعنى مفعول مثل ذِبْح.
ومعنى دُنوها: قربها من أيدي المتناولين لأن ذلك أهنأ إذ لا كلفة فيه، قال تعالى: {وذُلِّلتْ قطوفُها تذليلا} [الإنسان: 14].
وجملة {كلوا واشربوا} إلى آخرها مقول قول محذوف وهو ومقوله في موضع صفة ل {جنة} إذ التقدير: يقال للفريق الذين يُؤتون كتبهم بأيمانهم حين يستقرون في الجنة: {كلوا واشربوا} إلخ.
ويجوز أن تكون الجملة خبرا ثانيا عن الضمير في قوله: {فهو في عيشة راضية}.
وإنما أفردت ضمائر الفريق الذي أوتي كتابه بيمينه فيما تقدم ثم جاء الضمير ضمير جمع عند حكاية خطابهم لأن هذه الضمائر السابقة حُكيت معها أفعال مما يتلبس بكل فرد من الفريق عند إتمام حسابه.
وأما ضمير {كلوا واشربوا} فهو خطاب لجميع الفريق بعد حلولهم في الجنة، كما يدخل الضيوف إلى المأدبة فيُحيّي كل داخل منهم بكلام يخصه فإذا استقروا أقبل عليهم مضيِّفهم بعبارات الإِكرام.
و{هنيئا} يجوز أن يكون فعيلا بمعنى فاعل إذا ثبت له الهناء فيكون منصوبا على النيابة عن المفعول المطلق لأنه وصفه وإسناد الهناء للأكل والشرب مجاز عقلي لأنهما متلبسان بالهناء للآكِللِ والشارب.
ويجوز أن يكون اسم فاعل من غير الثلاثي بوزن ما للثلاثي.
والتقدير: مهنّئا، أي سبب هناء، كما قال عمرو بن معد يكرب:
أمِنْ ريْحانة الداعي السميع

أي المسْمع، وكما وصف الله تعالى بالحكيم بمعنى الحُكم المصنوعات، ويجوز أن يكون فعيلا بمعنى مفعول، أي مهْنِيئا به.
وعلى الاحتمالات كلها فإفراد {هنيئا} في حال أنه وصف لشيئين بناءٌ على أن فعيلا بمعنى فاعل لا يطابق موصوفه أو على أنه إذا كان صفة لمصدر فهو نائب عن موصوفه، والوصف بالمصدر لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث.
و{بما أسلفتم} في موضع الحال من ضمير {كلوا واشربوا}.
والباء للسببية.
وما صْدقُ (ما) الموصولة هو العمل، أي الصالح.
والإِسلاف: جعل الشيء سلفا، أي سابقا.
والمراد أنه مقدم سابق لإِبانه لينتفع به عند الحاجة إليه، ومنه اشتق السلف للقرض، والإِسلاف للإِقرأض، والسُّلْفة للسّلم.
و{الأيام الخالية}: الماضية البعيدة مشتق من الخلو وهو الشغور والبعد. اهـ.